فصل: (سورة الأنفال آية 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنفال آية 35]:

{وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}
المكاء: فعال بوزن الثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر: ومنه المكاء، كأنه سمى بذلك لكثرة مكائه. وأصله الصفة، نحو الوضاء والفراء. وقرئ: مكا بالقصر. ونظيرهما:
البكى والبكاء. والتصدية: التصفيق، تفعلة من الصدى أو من صدَّ يصدّ {إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} وقرأ الأعمش: {وما كان صلاتهم}، بالنصب على تقديم خبر كان على اسمه، فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله:
وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ** أدَاهِمَ سُودًا أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا

والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه {فَذُوقُوا} عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.

.[سورة الأنفال الآيات 36- 37]:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)}
قيل نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر.
وقيل: قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر. وقيل: نزلت في أبى سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل اللّه، وإن لم يكن عندهم كذلك {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي تكون عاقبة إنفاقها ندمًا وحسرة، فكأنّ ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك فيرجعون طلقاء {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} والكافرون منهم إِلى {جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} الفريق الخبيث من الكفار {مِنَ} الفريق {الطَّيِّبِ} من المؤمنين، فيجعل الفريق {الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله تعالى: {كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} يعنى لفرط ازدحامهم {أُولئِكَ} إشارة إلى الفريق الخبيث، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون كأبى بكر وعثمان في نصرته {فَيَرْكُمَهُ} فيجعله في جهنم في جملة ما يعذّبون به، كقوله: {فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} الآية، واللام على هذا متعلقة بقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} وعلى الأوّل بيحشرون، وأولئك: إشارة إلى الذين كفروا. وقرئ: {ليميز} على التخفيف.

.[سورة الأنفال آية 38]:

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)}
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} من أبى سفيان وأصحابه. أي قل لأجلهم هذا القول وهو {إِنْ يَنْتَهُوا} ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: {إن تنتهوا يغفر لكم}، وهي قراءة ابن مسعود.
ونحوه: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ} خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أي إن ينتهوا عماهم عليه من عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} لهم من العداوة {وَإِنْ يَعُودُوا} لقتاله {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يجب ما قبله».
وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط. وأما الذي فلا يلزمه قضاء حقوق اللّه وتبقى عليه حقوق الآدميين.
وبه احتجّ أبو حنيفة رحمه اللّه في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة. وقبلها، وفسر {وَإِنْ يَعُودُوا} بالارتداد. وقرئ {يُغْفَرْ لَهُمْ} على أن الضمير للّه عز وجل.

.[سورة الأنفال الآيات 39- 40]:

{وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}
{وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن الكفر وأسلموا {فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. وقرئ: {تعملون}، بالتاء، فيكون المعنى: فإن اللّه بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام بَصِيرٌ يجازيكم عليه أحسن الجزاء {وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} أي ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}
التفسير: لما حكى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وآله حكى مكرهم في دينه. وروي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجرًا واشترى أحاديث كليلة ودمنة وقصة رستم واسفنديار، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين فيقرأ عليهم ويقول هذا مثل ما يذكره محمد من قصص الأوّلين، ولو شئت لقلت مثل قوله، وهذا منه ومن أمثاله صلف تحت الراعدة لأنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة. ويروى عن النضر أو عن أبي جهل على ما في الصحيحين أن أحدهما قال ما معناه {اللهم إن كان هذا هو الحق} الآية. وهذا أسلوب من العناد بليغ لأن قوله: {هو الحق} بالفصل وتعريف الخبر تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق. ومعنى {حجارة من السماء} الحجارة المسوّمة للعذاب أي إن كان القرآن هو المخصوص بالحقية فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بنوع أخر من جنس العذاب الأليم. ومراده نفي كونه حقًا فلذلك علق بحقيته العذاب كما لو علق بأمر محال فهو كقول القائل إن كان الباطل حقًا فأمطر علينا حجارة. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة. قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة} ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. ثم شرع في الجواب عن شبهتهم فقال: {وما كان الله ليعذبهم} اللام لتأكيد النفي دلالة على أن تعذيبهم بعذاب الاستئصال والنبي بين أظهرهم غير مستقيم عادة تعظيمًا لشأن النبي {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال قتادة والسدي: المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم. وقيل: اللفظ عام لأن المراد بعضهم وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين المؤمنين فهو كقولك: قتل أهل المحلة فلانًا وإنما قتله واحد منهم أو اثنان. وقيل:
وصفوا بصفة أولادهم والمعنى وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه، وفي علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان كحكيم بن حزام والحرث بن هشام وعدد كثير ممن آمن يوم الفتح وقبله وبعده.
وفي الآية دلالة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله والاستغفار. أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باقٍ إلى يوم القيامة. ثم بين أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم فقال: {ومالهم ألا يعذبهم الله} وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. قيل: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر. وقيل: يوم فتح مكة بدليل قوله: {وهم يصدون} أي كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عام الحديبية. والأوّلون قالوا: إن إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ. وعن ابن عباس أن هذا العذاب عذاب الآخرة والذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء فنفى الله استحقاقهم الولاية بقوله: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} من المسلمين وليس كل مسلم يصلح لذلك فضلًا عن مشرك {ولكن أكثرهم لا يعلمون} كان فيهم من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم. ثم ذكر بعض أسباب سلب الولاية عنهم فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} المكاء فعال كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر. والتصدية التصفيق تفعلة من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل فيكون في الأصل معتل اللام، أو من صدّ يصدّ مضاعفًا أي صاح فقلبت الدال الأخيرة ياء كالتقضي في التقضض، وأنكر هذا الاشتقاق بعضهم وصوّبه الأزهري وأبو عبيدة. قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء والتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرًا. وقيل: هو أن يجعل بعض أصابع اليمين وبعض أصابع الشمال في الفم ثم يصفر به. وقيل: تصويب يشبه صوت المكَّاء بالتشديد وهو طائر معروف. عن ابن عمر: كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. فالمكاء والتصدية على هذا نوع عبادة لهم فلهذا وضعا موضع الصلاة بناء على معتقدهم. وفيه أن من كان المكاء والتثدية صلاته فلا صلاة له كقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء أي من كان السخاء عيبه فلا عيب له. وقال مجاهد ومقاتل: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف والصلاة عند المسجد الحرام يستهزؤن به ويخلطون عليه فجعل المكاء والتصدية صلاة لهم كقولك: زرت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة.